المشروع الإسلاميّ” VS “المشروع القوميّ”.. تعميق الحوار والمساحات المشتركة؟

عاجل

الفئة

shadow
*بقلم الدكتور مالك أبو حمدان*

كثيرٌ منّا، نحن الذين نشأنا في جوِّ تربيةٍ مائلةٍ إلى ثقافة "الإسلام الحركيّ"، إن صحّ التّعبير (وبمختلف تجلّيات هذا الإسلام الحركيّ)، يعيشون أحياناً هذه المعضلة، ظاهراً أو باطناً، أو هم يعيشون هذا السّؤال "العمليّ". السّؤال الذي ما يزال مفتوحاً برغم تراجع المشاريع القوميّة واليساريّة بشكل عامّ منذ نحو أربعة عقود من الزّمن العربيّ على الأقلّ. إذن؛ (١) بالرّغم من النّجاحات المرحليّة الملموسة والأكيدة للعمل السّياسيّ الإسلاميّ بشكل عامّ، لا سيّما في ما يخصّ مواجهة المشروع الاستعماريّ الغربيّ المتجدّد بقيادة أميركا والكيان الإسرائيليّ؛ (٢) وبالرّغم من ملاءمة هذا “العمل الإسلاميّ”، براغماتيّاً وعملانيّاً، حتّى الآن، للوجه “المقاوم” من هذه المرحلة الإقليميّة العربيّة؛ (٣) ولكن، هل يُمكن مع ذلك أن يكون “الإسلام الحركيّ” هذا بشكل عامّ هو الحلّ – بعيد الأمد – في مجتمعات متنوّعة ومتعدّدة، كما هي الحال في لبنان وسوريا والعراق بشكل خاصّ؟ (٤) وهل يُمكن أن يوصل هذا النّوع من العمل الحركيّ الدّينيّ الطّابع، فعلاً، إلى تأسيس مشاريع وطنيّة جامعة.. ومشاريع بناء دولة حديثة ضمن مجتمعات شديدة التّعقيد كهذه المجتمعات؟ السّؤال ما يزال مفتوحاً برأيي، ولو أنّ صدى طرحِهِ ونقاشِهِ قد تراجعَ مرحليّاً مع تعاظم محنة التّيّارات القوميّة العربيّة بشكل خاصّ، ومع صعود نجم وزخم التّيّارات الإسلاميّة – السّنّية والشّيعيّة – لا سيّما بعد انتصار الثّورة الإسلاميّة في إيران عام ١٩٧٩ بقيادة الإمامِ الخُمينيّ. *** فلنأخذْ مَثَل أشخاص تربّوا – كما تربّينا – تربيةً حركيّة إسلاميّة نموذجيّة (بمعنى: Typique): ولنفترض، على سبيل المثال والتّصوير لا على سبيل الحصر، أنّ هذه التّربية وهذه التّنشئة وهذه التّعبئة قد حصلت ضمن جوّ الثّلاثيّ القياديّ الإسلاميّ الشّيعيّ المُعاصر والمتمثّل: (١) بالإمام “السّيّد المُغيّب” موسى الصّدر في لبنان، و(٢) بالمرجع “السّيّد الشّهيد” محمّد باقر الصّدر في العراق، و(٣) بالمرجع “السّيّد الإمام” روح الله الخمينيّ في إيران. وقد أشار سماحة السّيّد حسن نصرالله، السّنة الماضية، وفي لحظة تأبينيّة عامِلِيّة حركيّة-إسلاميّة رمزيّة بامتياز، أي خلال تأبين المرحوم العلّامة المجاهد الشّيخ عفيف النّابلسيّ إلى أنّ سيرة هذا العالم المُجاهد هي “رمزيّة” بالنّسبة إلى أهل العمل الحركيّ الإسلاميّ في لبنان وفي المنطقة.. لأنّها تُبيّن، بشكل واضح وجليّ، كيف أنّ دخولَ دارِ أبي صدر الدّين الصّدر في لبنان – إن صلحت النّيّة – لا يُمكن إلّا وأن ينتهيَ بصاحبه إلى دخولِ دارِ أبي جعفر الصّدر في النّجف، ثمّ إلى دخول دارِ “السّيّد الإمام” في قمّ. وهنا أتوقف عند جملة شهيرة للسّيّد محمّد باقر الصّدر، بالمعنى نفسه، من خلال مقولته الشّهيرة: “ذوبوا في الإمام الخُمينيّ، كما ذابَ هو في الإسلام!”. كثيرٌ منّا الذين عاشوا ويعيشون هذا الذّوبان الرّوحيّ والحركيّ في محبّة ومنهاج السّيّد موسى الصّدر، وفي محبّة ومنهاج العالِمَين الجليلَين الثّائرَين الكبيرَين الآخرَين. وأعتقد أنّني أعرف جيّداً معنى هذا الكلام وطعمَه على المستوى الشّخصيّ، حيث أنّي نشأت شخصيّاً في بيتٍ حركيٍّ يكاد لا يرى لبنان إلّا من خلال عينَي الإمام المُغيّب (والحَاضِر معاً). هل نحن أمام “حلم رومنسيّ” كما وصفه لي يوماً الأستاذ الكبير الرّاحل طلال سلمان؟ وهل “الإسلام الحركيّ” هو مجرّد مرحلة لا بُدّ منها لمقاومة الفكر الصّهيونيّ المتطرّف والفاشيّ من جهة، وبهدف الممانعة العسكريّة والسّياسيّة الطّارئة والعاجلة للاستعمار الغربيّ المتجدّد من جهة أخرى.. بانتظار “عودة” مشاريعنا القوميّة والوطنيّة غير ذات الطّابع الدّينيّ-الطّائفيّ؟ الخطوط العقائديّة العريضة واضحة بشكل عام، والتّوجّهات “الحركيّة الإسلاميّة” جليّة إلى حدّ بعيد.. فمع الأخذ بخصوصيّة لبنان، كما يُعلّم “السّيّد موسى”، ومع الأخذ أيضاً بخصوصيّة سوريا في مرحلة من المراحل، يتعلّم الفرد ضمن هذا الجوّ العامّ: المناداة ببناء سلوك إسلاميّ، وأخلاق إسلاميّة، ووجدان إسلاميّ، ومجتمع إسلاميّ، وأسرة إسلاميّة، واقتصاد إسلاميّ، وحركة سياسيّة إسلاميّة – أو حركة سياسيّة إسلاميّة الطّابع (إلخ..). ويعمل، بالطّبع، لبناء “مشروع اسلاميّ متكامل” لمن استطاع إلى ذلك سبيلا. ألسنا واخواننا وأهلنا المُنشدين لأبي جعفر الصّدر النّجفيّ، شهيد العراق الأوّل، مع الأديب الشّهيد الدّكتور داوود العطّار.. وربّما أحياناً بحضور حبيب الصّدر النّجفيّ، أي العلّامة المجاهد العامليّ الرّاحل السّيّد محمّد حسين فضل الله (كما في المقطع المصوّر التّاريخيّ أدناه): باقرَ الصّدرِ منّا سَلاماْ  أيُّ باغٍ سقاكَ الحِمَاماْ؟ أنتَ أيقظْتَنَا، كيفَ تغفوْ؟  أنتَ أقسمتَ أنْ لنْ تَناماْ! (…) كذبَ (البعثُ) لا زلتَ فيناْ:  كالخُمَينيِّ تهديْ الأنَاماْ! نحنُ أقسَمناْ يميناً أن نضحّيْ أوْ نرى الإسلامَ: شرعاً ونِظَاماْ! (…) نحنُ هنا في عالم مُتميّز وخاصّ إذن، وذي بُعدٍ روحيّ ووجدانيّ ضخم. فمصدر التّشريع، بل مصدر المفاهيم جميعها ربّما، ومصدر القِيَم، هو النّقلُ بشكل عام، وعلى رأس ذلكم: القرآن الكريم والسّنّة النبويّة المباركة (وسنّة الأئمّة الميامين من أهل بيت رسول الله في هذه الحالة الصّدريّة المذكورة على سبيل المثال). هدف الفرد والمجتمع هو ضمنيّاً: استقراء وبناء المفاهيم الإسلاميّة على الدّوام من خلال الدّراسة العقليّة (والتّأويليّة الطّابع بالمعنى العلميّ الحديث) لنصوص التّراث الإسلاميّ المعتبرة، وخلفها يقفُ طبعاً الوحي الإلهيّ المُقدّس (أو دراسة النّماذج-المثاليّة التي نبنيها من خلال ذهننا: حول مقاصده، كما نُعبّر دائماً، وهذا بحثٌ آخر). ما أجمل وما أعظم هذا الهدف: بناء الفرد وبناء المجتمع وبناء الحركة الإنسانيّة بشكل عامّ.. مع اتّباعٍ للوحي الإلهيّ الأعظم. كم من طلبةٍ للعلم كانوا يتذكّرون أبا جعفر الصّدر وهو يستقري المفاهيم الإسلاميّة.. عندما يتعبون من العَمَل الذّهنيّ وسط اللّيل، فيُنشدون للصّدر الشّهيد: إقرأ على موقع 180  جمرةَ حبٍ للمؤتمنين على المصير.. والدروب يا أبا جَعفرٍ نمْ قريرَ الـ/ عَينِ: إنَّا هَجرنَا المَنَاماْ! هل كان الباقرُ أبو جعفر النّجفيّ لِيقبلَ التّوقّفَ عن العمل الحركيّ الحَوزويّ والأكاديميّ، فقط بسبب تعبٍ جسديّ؟ *** وقد أثمر هذا الجوّ العامّ وهذه المدرسة، بشكل خاصّ وواضح وفعّال جدّاً، من زاوية العمل الحركيّ لكن العسكريّ هذه المرّة، لا سيّما في ما يعني إيران ولبنان والعراق (ثمّ اليمن) تحديداً.. وصولاً إلى تفاعل هذا التّوجّه العامّ مع الحركيّة الإسلاميّة السُّنّيّة كما حدث ويحدث اليومَ عند أهل الثّغور: مع حركَتَي “الجهاد الإسلاميّ” و”حماس” على أرض فلسطين المحتلّة و”الجماعة الإسلامية” على أرض جبل عامل. وكلمة السّرّ الظّاهرة والباطنة لهذا الخطّ العامّ، في جانبه العسكريّ المقاوم، اختصرتها ربّما عبارة “السّيّد الإمام” التي أمست ايقاعاً كشفيّاً وعسكريّاً لا مهربَ منه عند القوم المقاومين في الثّغور: “يجب / أن تزول / (إسرائيل) / من الوجود“. وإلى حدّ بعيد، فقد تنبّأت بهذا الواقع الحركيّ الإسلاميّ المُقاوم الرّاهن، أيضاً، العبارةُ الشّهيرةُ للصّدر اللّبنانيّ، أي عبارة أبي صدر الدّين الصّدر أمام القائد الفلسطينيّ الرّاحل ياسر عرفات: “خُذْ عِلماً بذلك، يا أبا عمّار: أنّ شرفَ (القُدسِ) يأبى أن تتحرّر.. إلّا على أيدي (المؤمنين)”. قد يبدو هذا النّداء الصّدريّ القادم من قلب جوّ الحرب الباردة، ومن قلب جوّ المواجهة المتصاعدة حينها (للأسف) بين التّيّار الماركسيّ المادّيّ التّوجّه عموماً من جهة، وبين التّيّار الحركيّ الإسلاميّ من جهة أخرى: قد يبدو هذا النّداء للبعض بمثابة نبوءة في طريقها نحو التّحقّق الكُلّيّ. وقد يبدو هذا الخطّ العامّ المذكور، وكأنّه الخطّ المناسب حقّاً لأفرادنا ولمجتمعاتنا ولدولنا ولمستقبلنا جميعاً.. قد يبدو كذلك، وهو يبدو كذلك لأمثالنا في أحيانٍ كثيرة، خصوصاً مع تذكّر الإنجازات العسكريّة المهمّة لمحور المقاومة.. ومع تذكّر رموز من أمثال: مصطفى شمران، محمّد سعد، راغب حرب، عبّاس الموسويّ، عماد مغنيّة، قاسم سليمانيّ وغيرهم من القادة الشّهداء ضمن هذا الخطّ.. قد يبدو الأمرُ كذلك ببساطة مُذهلة.. لولا ارتطامه المتكرّر، في الجانب الفرديّ وفي الجانب الجماعيّ معاً، وبرغم كلّ ما سبق: ارتطامه العنيف أحياناً بالواقِعَين الجغرافيّ والدّيموغرافيّ-الثّقافيّ-الدّينيّ-الإثنيّ، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان (وحتّى في اليمن إلى حدّ مُعيّن). فالسّؤال المركزيّ الذي لم يزل يطرح نفسه في محطّات كثيرة: ماذا عن غير المسلمين؟ ماذا عن المجتمعات المتعدّدة بشكل عميق ومُعقّد، كما في العراق وسوريا ولبنان مثلاً؟ كيف سنبني مع “الآخرين” مشاريعنا الوطنيّة بعيدة الأمد.. وكيف سنبني دُولَنا غير الفاسدة والعصريّة بشكل جدّيّ؟ وكيف سنتجنّب النّزعات الفدراليّة التّقسيميّة ذات البذور الواضحة.. إذا ما لم يتمّ معالجة المشكلة في جوهرها ومن الآن؟ كيف سيحصل كلّ ذلك؟ هنا، يظهر لبعضنا أحياناً تفوّق المشاريع القوميّة ربّما: في هذه الجوانب بالذّات. فعلاً، كيف يُمكن البناء، على المدى البعيد، مع “الآخرين”، ضمن سياق عقائديّ كهذا؟ قال لي يوماً أحد القادة السّياسيّين المسيحيّين المحوريّين في لبنان: “هل يمكن الخروج بفكر كهذا من الضّاحية (الجنوبية).. حتّى إلى الحدث أو إلى فرن الشّبّاك؟”. وقد يقولُ بعضُ شياطين الجنّ والإنس أحياناً، أمام المشاكل اليوميّة والتّعقيدات في بلادنا: إنّه لا يُمكن الخروج بهذا الفكر ربّما، أقلّه بشكله الحاليّ.. حتّى من “تعلبايا الفوقا” إلى “تعلبايا التّحتا”! فهل نحن أمام “حلم رومنسيّ” كما وصفه لي يوماً الأستاذ الكبير الرّاحل طلال سلمان؟ وهل “الإسلام الحركيّ” هو مجرّد مرحلة لا بُدّ منها – من باب الضّرورة الآنيّة – لمقاومة الفكر الصّهيونيّ المتطرّف والفاشيّ من جهة، وبهدف الممانعة العسكريّة والسّياسيّة الطّارئة والعاجلة للاستعمار الغربيّ المتجدّد من جهة أخرى.. وكلّ ذلك، بانتظار “عودة” مشاريعنا القوميّة والوطنيّة غير ذات الطّابع الدّينيّ-الطّائفيّ؟ الواضح عندي، أنّنا، وبالرّغم من القوّة الضّمنيّة النّسبيّة لكثير من مفاهيمنا الإسلاميّة-الحركيّة لا سيّما منها الصّدريّة، لم نُجب بعدُ على هذه الأسئلة بشكل واضح وكُلّيّ وعمليّ. في الأعمّ الأغلب: ما زلنا مأخوذين بالتّحدّيات الخارجيّة الطّارئة، وبتحدّيات تجنّب الفتن الدّاخليّة (داخل الأوطان وداخل الجماعة الطّائفيّة ذاتها). إلى اليوم: لا صوتَ يعلو فوق صوت المعركة الخارجيّة.. وصوت منع الفتنة ضمن جماعتنا الطّائفيّة. ولكنّ الواضح أيضاً، بالنّسبة إليّ، هو امكانيّة تحديث وتطوير “المفاهيم الإسلاميّة” المطروحة.. بحيث نتمكّن من المُضيّ مع الجميع في حركات اجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة وسياسيّة تكون ذات طابعٍ وطنيّ و/أو قوميّ جامع. مع الاعتراف الصّادق بنقطة الضّعف هذه، ودون التّهرّب – غير الأمين فكريّاً – من التّحدّي، ومع الاعتراف بتفوّق الحركات القوميّة البحتة من هذه الزّاوية بالذّات: لا بدّ من العمل على تطوير هذا الإطار الفكريّ-العقائديّ العامّ، شكلاً (ومضموناً في بعض الأحيان).. وإلّا فإنّنا نحكم على “الإسلام الحركيّ” بأن يكونَ مجرّد مرحلة ردّة فعل – لا فعل – عسكريّة و/أو “رومنسيّة” الطّابع.. ومؤقّتة الطّبيعة.

الناشر

1bolbol 2bolbol
1bolbol 2bolbol

shadow

أخبار ذات صلة